![]() |
الدم ليس مجداً
((الدم ليس مجداً)) فهد الحربي في عالم تتصادم فيه الأصوات وتتصارع فيه الروايات يطفو على السطح خطاب يوهم بالبطولة وهو في جوهره لا يتجاوز كونه تبريراً لعنف أعمى يدفع ثمنه الأبرياء. يتحدث البعض عن الملاحم والإنتصارات من وراء شاشات لامعة بينما على الأرض تنهمر القنابل وتسحق الأرواح تحت ركام الشعارات. هناك من امتهنوا المبالغة والتضليل يصيغون خطاباً عاطفياً مفخخاً يلمع صوراً دامية ويبرر ممارسات لا تمت للإنسانية بصلة..يهلّلون لما يسمونه إنتفاضة ويصفون أهوالها بـ (الملحمة) متناسين أن من يدفن أبناءه كل يوم لايسعه التهليل ومن تُهدم مدرسته فوق رأسه لايعنيه توصيف الصراع بالكرامة. الكارثة ليست فقط في الدمار بل في إصرار بعض الخطابات على تجميله وترويجه كإنجاز. من يزينون مشهد الدماء بالكلمات الرنانة يغضون الطرف عن أن الخسائر تقع على رؤوس المدنيين لا صانعي القرار..لا يميز الموت بين مقاتل وطفل..ولا بين مسؤول وعجوز ومع ذلك لاتنقطع حملات التمجيد لمشهد مأساوي يُعاد إنتاجه في قوالب تضليلية تحت لافتة (الرد المشروع) لكن أي مشروع هذا الذي يحصد أرواح الأطفال ويجرف حياة العائلات ويترك المجتمعات بلا مأوى؟ ما يثير الإستغراب حقًا هو البُعد الأخلاقي الغائب عن تلك السرديات فالأصوات التي تصرخ من خارج ساحات النار تدعو إلى التضحية دون أن تكون مستعدة لتحمل شيء من عواقبها يعيشون في أمان نسبي ويملكون المنصات العالية واللغة المزخرفة ويتحدثون بلغة لايفقهها الجوعى ولا يعرفها من فقد اطفاله. الخطورة لا تكمن في الإنحياز السياسي فحسب بل في تعمد تشويه الحقائق وتسويق الألم كوسيلة للدعاية..يُختزل الواقع في شعارات ضيقة وتُغيّب قصص الناجين وتُسحق التفاصيل الإنسانية تحت عجلات الخطاب التعبوي. كل من يرفض هذه السردية يُتهم بالخيانة أو بالجهل وكأن العقل النقدي أصبح ترفاً لا يُسمح به. للأسف..هذا النوع من الخطاب يُسهم في تعقيد المأساة أكثر من تفكيكها..لايقدّم حلولًا بل يضاعف منسوب الغضب ويمنع الإعتراف بالخطأ أو مراجعة الذات..كل شيء عندهم مبرّر بإسم المقاومة حتى أكثر الأفعال وحشية..حتى إختطاف الرضع حتى بثّ مشاهد القتل للعموم..وكأن الإنسان فقد قيمته في هذا المعترك وأصبح مجرد وسيلة لكسب تعاطف أو إثارة جدل. المشكلة ليست في فكرة المقاومة بل في المتاجرة بها..لا أحد يعارض الدفاع عن الحقوق والكرامة لكن عندما تُقترف الفظائع بإسم هذه الشعارات تصبح المسألة أكثر من مجرد خلاف سياسي تصبح أزمة أخلاقية وإنسانية. كيف يمكن تبرير القتل العشوائي؟ أو تصوير المأساة كإنجاز؟ ما هو النصر الذي يُبنى على أنقاض البيوت ودموع الأمهات؟ هذا التيار الخطابي لايريد الإنصات لصوت الضحايا لأنه يدرك أن الإنصات سيقوّض روايته فهو بحاجة لصخب يُغطي على الألم ولمنصات تُعيد تدوير الشعارات القديمة..بينما الحقيقة أوضح من أن تُنكر: الناس تعبوا..المجتمعات تنزف..والأرواح لا تُرمم بشريط دعائي. أكثر ما يحتاجه الواقع الآن ليس خطاباً يمجد الكارثة بل كلمة صادقة تميّز بين الحق والتمادي بين الألم الحقيقي والتجييش العابر..نحتاج إلى جرأة في قول الحقيقة حتى وإن كانت مؤلمة لأن الإستمرار في تجاهلها يُطيل من عمر الكارثة ويمنح الزيف مزيداً من الوقت لينتشر. الوقوف إلى جانب الإنسان بصرف النظر عن السياسة والمواقف هو الموقف الأخلاقي الوحيد الذي يصمد أمام المحاسبة التاريخية..أما من يواصلون الترويج لعنف أعمى ويستثمرون في الخراب فسيبقون خارج معادلة الحل مهما ارتفع صوتهم أو لمع خطابهم. |
الساعة الآن 10:35 AM. |
© جميع الحقوق محفوظة لـ فهد الحربي - fahad.alharbieer@gmail.com