((الشعارات الثورية ومأزق التعايش الإقليمي))
(فهد الحربي)
في غمرة التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تموج بها الساحة الدولية المعاصرة، تتشابك خيوط التوترات السياسية مع أبعاد ثقافية ودينية بالغة التعقيد، لتُفرز صراعات تتجاوز المواجهات العسكرية الصارخة والمناورات الدبلوماسية التقليدية.
إن جوهر هذه النزاعات يتجذر عميقًا في مفهوم الهوية الجماعية، والرغبة الجامحة لدى بعض الفاعلين في تصدير هذه الهوية ونشرها خارج نطاق حدودها الجغرافية المتعارف عليها.
هذه التوترات، وإن بدت استراتيجية في ظاهرها، فإنها تعكس في حقيقتها صراعًا وجوديًا حول تعريف الدولة الحديثة، وتحديد أبعاد نفوذها، ورسم حدود امتداد رسالتها السياسية أو المذهبية.
لقد كانت نشأة الدولة الحديثة في أوروبا بمثابة رد فعل تاريخي حاسم على قرون من الصراعات الدينية المدمرة التي مزقت القارة..تبلورت معالم هذه الدولة على أسس من الحياد الديني، التي هدفت إلى ترسيخ حرية المعتقد واحترام التعددية، سعيًا لضمان استقرار المجتمعات ومنع تكرار الحروب العقائدية التي خلفت وراءها دمارًا شاملًا..توج هذا المسار التاريخي بصلح وستفاليا عام 1648، الذي يُعد علامة فارقة في العلاقات الدولية، حيث كرّس بوضوح مفهومي السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول كركيزتين أساسيتين للنظام الدولي الوليد آنذاك. ورغم أن هذه المبادئ الجوهرية قد ترسخت لاحقًا في ميثاق الأمم المتحدة وتكرست كقواعد حاكمة في القانون الدولي المعاصر، فإن التاريخ المعاصر قد شهد خروقات متكررة وممنهجة لها، لا سيما بعد حقبة الحربين العالميتين..فقد لجأت بعض القوى الكبرى إلى توظيف شعارات براقة، مثل (التحرير) أو (الدعم الإنساني)، لتبرير تدخلاتها السافرة في شؤون الدول الأخرى.
هذا المسلك أسهم بشكل مباشر في زعزعة استقرار مناطق حيوية متعددة، كان أبرزها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما زالت تعاني من تداعياتها حتى اليوم.
وعليه، فإن مفهوم السيادة لم يعد مجرد عنصر قانوني شكلي يرتبط بالحدود الجغرافية للدولة، بل غدا شرطًا جوهريًا لا غنى عنه لاستمرار الدولة كمؤسسة فاعلة ومستقلة على الصعيدين الداخلي والخارجي ويتطلب احترام هذه السيادة التزامًا صارمًا بمبدأ حسن الجوار، الذي يرتكز على عدم التعدي على حقوق الدول الأخرى، واعتماد الحوار البناء والمفاوضات السلمية كوسيلة رئيسية لحل النزاعات، ضمن إطار تفاهمات إقليمية ودولية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
غير أن الواقع يشير إلى أن بعض الأنظمة قد تجاوزت هذا الإطار بشكل صارخ، مدفوعة بمبررات مذهبية أو أيديولوجية ضيقة..هذا التجاوز أفضى إلى تعميق الانقسام، وتآكل الثقة، وتقويض فرص التكامل الإقليمي الذي يُعد ضرورة حتمية لمواجهة التحديات المشتركة..وقد تجلى ذلك في نماذج متعددة من التدخلات السافرة التي تركت أثرًا بالغ السلبية على استقرار الدول المتأثرة، وساهمت في خلق بيئات هشة ومترنحة، سهلت تمدد الأزمات وتفاقمها على نحو بات يهدد الأمن والسلم الدوليين.
في ضوء هذا المشهد المعقد، يصبح من الضروري بمكان إعادة الاعتبار إلى ثنائية الهوية والسيادة، بوصفهما مكونًا أساسيًا لا غنى عنه لمنظومة دولية متوازنة ومستقرة فلا يمكن بناء سلام داخلي أو إقليمي مستدام دون الاعتراف الكامل بحق الدول في رسم مسارها الخاص، والحفاظ على استقلال قرارها السيادي، والتخلي التام عن الطموحات التوسعية التي تقوّض قواعد القانون الدولي، وتُهدّد أمن الجميع دون استثناء.
. إن احترام خصوصية الهويات الوطنية والسيادة المطلقة للدول هو السبيل الوحيد لبناء نظام عالمي يقوم على العدل والتعاون المتبادل، وينبذ منطق الهيمنة والتدخل الذي أثبت فشله في تحقيق الإستقرار المنشود.