((الدرعية..قصة لاتموت ))
فهد الحربي
في قلب الجزيرة العربية، وعلى ضفاف وادي حنيفة، نشأت الدرعية كإحدى أبرز الحواضر التي صنعت التاريخ وكتبت فصولاً من المجد والبطولة. لم تكن الدرعية مجرد مدينة، بل كانت رمزاً لحضارة، ومركز انطلاقة الدولة السعودية الأولى، وموطناً لصمود رجال آمنوا برسالة التوحيد، وواجهوا أعظم التحديات بثبات لا يلين.
منذ تأسيسها في القرن الخامس عشر الميلادي، تميّزت الدرعية بموقعها الاستراتيجي، وازدهرت كمركز تجاري وثقافي، حتى أصبحت في منتصف القرن الثامن عشر عاصمة الدولة السعودية الأولى..كانت تلك النقلة التاريخية بداية عهد جديد، إذ اجتمع فيها الدين والسياسة، وتوحّدت القبائل تحت راية واحدة تقودها قيادة مؤمنة بقيم الإسلام وعازمة على المضي قدماً بلا تراجع.
وفي مواجهة الحملات العثمانية التي سعت لإسقاط الدولة الناشئة، وقفت الدرعية شامخة تقاتل دفاعاً عن الأرض والعقيدة..وكان الإمام عبدالله بن سعود -رحمه الله- أبرز رموز هذا الصمود؛ لم يكن مجرد قائد عسكري بل رجلاً يحمل في قلبه يقيناً راسخاً بأن الدفاع عن الدرعية هو دفاع عن الرسالة التي حملها الأجداد..قاتل حتى اللحظة الأخيرة، وواجه مصيره بشجاعة نادرة، ليدوّن اسمه في ذاكرة الوطن رمزًا للتضحية والوفاء واني لأتذكر كيف كان والدي-رحمه الله- يحدثني عن شجاعة هذا الفارس العظيم وبسالته للذود والدفاع عن وطنه بكل قوة
ولم يكن الإمام وحده في هذا الطريق، فقد شاركه رجال ونساء من أهل الدرعية قدّموا أرواحهم فداءً للدين والوطن ورحلوا شهداء واحياء عند ربهم لكنهم لم يغادروا الذاكرة، إذ بقيت قصصهم تروى، وآثارهم شاهدة على أن هذه الأرض
لاتنكسر، وأن قلوب أبنائها تحمل جذوة لا تنطفئ.
ومع سقوط الدرعية عام 1818م خُيّل للبعض أن الحلم قد انتهى، غير أن الله عز وجل أعز آل سعود ونصرهم، فأعاد إليهم المجد بقيام الدولة السعودية الثانية، ثم الثالثة، لتعود الدرعية إلى الواجهة، لاكرمز تاريخي وحسب، بل كقلب نابض للهوية السعودية.
واليوم، وفي عهد سيدي ومولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- تشهد الدرعية نهضة غير مسبوقة فلم يعد الاهتمام بها يقتصر على الحفاظ على آثارها بل تحوّل إلى مشروع وطني يجسد رؤية المملكة للمستقبل.
إن مشروع بوابة الدرعية عندما تشرفت بزيارته ليس مجرد تطوير عمراني، بل هو إحياء للروح التي صنعت التاريخ، وتجسيد لفخر السعوديين بجذورهم الضاربة في العمق.
الملك سلمان بن عبدالعزيز-رعاه الله- الذي عرف الدرعية عن قرب منذ شبابه، يحمل لها مكانة خاصة في قلبه، وقد انعكس هذا الحب في رعايته للمشاريع التي أطلقها، وفي دعمه لتحويلها إلى وجهة عالمية تحتضن الثقافة والفن والتاريخ.
أما الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- فقد جعل من الدرعية ركيزة أساسية في رؤية 2030، إيماناً منه بأن المستقبل الراسخ لايُبنى إلا على أساس متين من الماضي.
الدرعية اليوم وبعد تشرفي بزيارتها ليست مجرد موقع أثري، بل هي قصة تُروى وهوية يُحتفى بها، ومصدر إلهام للأجيال القادمة..شوارعها القديمة، وقصورها الطينية، وأسوارها التي شهدت أشرس المعارك، تحوّلت إلى معالم تحكي حكاية وطن وتُشعر الزائر بعظمة المكان وعمق الرسالة.
إن صمود الدرعية في الماضي ونهضتها في الحاضر يعكسان حقيقة راسخة: أن هذه الأرض
لاتُهزم، وأن من يسكنها يحمل في قلبه إرثاً من البطولة والعزة..فكما صمد الإمام عبدالله بن سعود في وجه الطغيان، وكما ضحّى الشهداء دفاعاً عن العقيدة، تسير القيادة اليوم على ذات النهج، تعيد بناء المجد وترفع راية الوطن عالية.
وفي كل حجر يُرمَّم، وكل شارع يُعبَّد، وكل فعالية تُقام بين جنباتها، رسالة مضمونها : (نحن هنا، لم نغادر، ولم ننسى)
الدرعية ليست مجرد ماضٍ، بل هي حاضر ومستقبل، وشاهد على أن الله إذا أراد لقوم خيراً هيأ لهم من الأسباب ما يعيد لهم العزة ويمنحهم النصر.
وهكذا تبقى الدرعية، بتاريخها وصمودها وحضارتها، نبراساً يضيء طريق المملكة، وتذكرة دائمة بأن المجد لايُشترى، بل يُصنع بالتضحيات، ويُصان بالإيمان، ويُخلَّد بالوفاء.