#1
|
||||
|
||||
![]()
[CENTER]
((الدم ليس مجداً))
فهد الحربي في عالم تتلاطم فيه الأصوات وتتصارع فيه الروايات المتعددة، يطفو على السطح خطابٌ يوهم بالبطولة، بينما هو في جوهره لا يتجاوز كونه تبريرًا لعنف أعمى يدفع ثمنه الأبرياء البُسطاء. يتحدث البعض عن الملاحم والانتصارات المزعومة من وراء شاشات لامعة ومنصات افتراضية، في حين أن الواقع على الأرض يشهد انهمار القنابل التي تسحق الأرواح البريئة تحت ركام الشعارات الفارغة. هناك من امتهنوا المبالغة والتضليل، يصوغون خطابًا عاطفيًا مُفخخًا يلمّع صورًا دامية ويُبرر ممارسات لا تمت للإنسانية بصلة. يُهلّلون لما يسمونه "انتفاضة"، ويصفون أهوالها بـ "الملحمة الكبرى"، متناسين أن من يدفن أبناءه كل يوم لا يسعه التهليل أو الفرح، ومن تُهدم مدرسته فوق رأسه لا يعنيه توصيف الصراع بـ "الكرامة" أو "النصر". الكارثة الحقيقية لا تكمن فقط في الدمار المادي والمعنوي، بل في إصرار بعض الخطابات على تجميله وترويجه كإنجاز تاريخي أو بطولة فائقة. إن من يزينون مشهد الدماء بالكلمات الرنانة يُغضّون الطرف عن حقيقة أن الخسائر الفادحة تقع على رؤوس المدنيين العُزل، وليس على صانعي القرار أو قادة الحرب. لا يميز الموت بين مقاتل وطفل بريء، ولا بين مسؤول رفيع وعجوز ضعيف. ومع ذلك، لا تنقطع حملات التمجيد لمشهد مأساوي يُعاد إنتاجه في قوالب تضليلية تحت لافتة "الرد المشروع". لكن أي مشروع هذا الذي يحصد أرواح الأطفال الغضة، ويجرف حياة العائلات بأكملها، ويترك المجتمعات بلا مأوى أو أمل؟ ما يثير الاستغراب حقًا هو البُعد الأخلاقي الغائب كليًا عن تلك السرديات المضللة. فالأصوات التي تصرخ من خارج ساحات النار تدعو إلى التضحية دون أن تكون مستعدة لتحمل شيئًا من عواقبها الوخيمة. يعيش هؤلاء في أمان نسبي، ويملكون المنصات العالية واللغة المزخرفة، ويتحدثون بلغة لا يفقهها الجوعى الذين يصارعون من أجل البوفر على قيد الحياة، ولا يعرفها من فقد أطفاله وأحبائه. إن الخطورة لا تكمن في الانحياز السياسي فحسب، بل في التعمد البين لتشويه الحقائق وتسويق الألم والمعاناة كوسيلة للدعاية الرخيصة. يُختزل الواقع المركب في شعارات ضيقة وجوفاء، وتُغيّب قصص الناجين الموجعة، وتُسحق التفاصيل الإنسانية المؤثرة تحت عجلات الخطاب التعبوي الموجه. وكل من يرفض هذه السردية السطحية يُتهم بالخيانة أو بالجهل أو حتى بالعمالة، وكأن العقل النقدي أصبح ترفًا لا يُسمح به في هذه الأجواء المشحونة. للأسف، هذا النوع من الخطاب يُسهم في تعقيد المأساة الإنسانية أكثر من تفكيكها أو تقديم حلول لها. إنه لا يقدم حلولًا عملية أو رؤى مستقبلية، بل يضاعف منسوب الغضب والكراهية، ويمنع الاعتراف بالخطأ أو مراجعة الذات الحقيقية. كل شيء عندهم مبرر باسم "المقاومة" أو "الصمود"، حتى أكثر الأفعال وحشية، وحتى اختطاف الرضع الأبرياء، وحتى بث مشاهد القتل المروعة للعموم. وكأن الإنسان فقد قيمته الذاتية في هذا المعترك وأصبح مجرد وسيلة لكسب تعاطف زائف أو إثارة جدل عقيم. المشكلة الجوهرية ليست في فكرة المقاومة في حد ذاتها، بل في المتاجرة بها واستغلالها لتحقيق أغراض لا تمت لها بصلة. لا أحد يعارض الدفاع عن الحقوق والكرامة المشروعة، ولكن عندما تُقترف الفظائع البشعة باسم هذه الشعارات المقدسة، تصبح المسألة أكثر من مجرد خلاف سياسي، بل تتحول إلى أزمة أخلاقية وإنسانية عميقة تُعري الزيف. كيف يمكن تبرير القتل العشوائي للمدنيين؟ أو تصوير المأساة التي تحل بالمجتمعات كـ "إنجاز"؟ وما هو النصر الذي يُبنى على أنقاض البيوت المتهدمة ودموع الأمهات الثكلى وآلام الأطفال المكلومين؟ هذا التيار الخطابي لا يريد الإنصات إلى صوت الضحايا الحقيقي، لأنه يدرك تمامًا أن الإنصات الصادق سيقوّض روايته الهشة ويفضح زيفها. فهو بحاجة ماسة إلى صخب وضجيج يُغطي على الألم الحقيقي، وإلى منصات تُعيد تدوير الشعارات القديمة البالية. بينما الحقيقة أوضح من أن تُنكر أو تُطمس: الناس تعبوا من الحرب والصراعات، والمجتمعات تنزف دماؤها، والأرواح البشرية لا تُرمم أو تُعوض بمجرد شريط دعائي أو خطاب تحريضي. أكثر ما يحتاجه الواقع الآن ليس خطابًا يمجد الكارثة أو يُضفي عليها شرعية زائفة، بل كلمة صادقة ومباشرة تميّز بوضوح بين الحق الأصيل والتمادي المفرط، بين الألم الحقيقي الصادق والتجييش العابر الذي يخدم أجندات خفية. نحتاج إلى جرأة حقيقية في قول الحقيقة، حتى وإن كانت مؤلمة وقاسية، لأن الاستمرار في تجاهلها يُطيل من عمر الكارثة ويمنح الزيف مزيدًا من الوقت والفرصة لينتشر ويتفشى. إن الوقوف إلى جانب الإنسان، بصرف النظر عن الانتماءات السياسية والمواقف المتباينة، هو الموقف الأخلاقي الوحيد الذي يصمد أمام المحاسبة التاريخية الصارمة. أما من يواصلون الترويج لعنف أعمى ويستثمرون في الخراب والدمار، فسيبقون خارج معادلة الحل الحقيقي، مهما ارتفع صوتهم أو لمع خطابهم الزائف. |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
مجداً, الحل |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|